الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{إن الذين يبايعونك} هي بيعة الرضوان تحت الشجرة كام يجيء في السورة. وقيل: ليلة العقبة وفيه بعد. وسماها مبايعة تشبيهًا بعقد البيع نظيره.{إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} [التوبة: 111] {إنما يبايعون الله} لأن طاعة الرسول هي طاعة الله في الحقيقة. ثم أكد هذا المعنى بقوله: {يد الله فوق أيديهم} قال أهل المعاني: هذا تمثيل وتخييل ولا جارحة هناك. وقيل: اليد النعمة أي نعمة الله عليهم بالهداية فوق إحسانهم إلى الله بإجابة البيعة كما قال: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم} [الحجرات: 17] قال القفال: هو من قوله صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى» يريد بالعليا المعطية أي الله يعطيهم ما يكون له به الفضل عليهم. وقيل: اليد القوة أي نصرته إياهم فوق نصرتهم لرسوله. وقيل: يد الله بمعنى الحفظ فإن المتوسط بين المتبايعين يضع يده فوق يدهما فلا يترك أن تتفارق أيديهما حتى يتم البيع، والمراد أن الله تعالى يحفظهم على بيعتهم. ثم زجرهم من نقض العهد وحثهم على الوفاء بقوله: {فمن نكث} إلى آخره. والنكث والنقض أخوان. وقوله: {فإنما ينكث على نفسه} أي لا يعود ضرر نكثه إلا عليه. قال جابر بن عبد الله: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفر، فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس، وكان منافقًا اختبأ تحت إبط ناقته ولم يثر مع القوم. ثم بين ما يعلم منه إعجاز القرآن لأنه أخبر عن الغيب وقد وقع مطابقًا وله في السورة نظائر فقال: {سيقول لك المخلفون} هم أسلم ومزينة وجهينة وغفار. وقيل: سموا مخلفين لأن التوفيق خلفهم ولم يعتدّ بهم. والظاهر أنهم سموا بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرًا استنفر الأعراب وأهل البوادي حذرًا من قريش أن يصدّوه عن البيت، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا: يذهب إلى قوم قصدوه في داره بالمدينة وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة فاعتلوا. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا وقالوا {شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا} سل الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك وإن كان من عذر فكذبهم الله بقوله: {يقولون بألسنتهم} وقوله شيئًا من الضر كقتل وهزيمة ولا يوصل إليهم نفعًا إلا ما شاء الله. وإنما قال هاهنا بزيادة لفظة {لكم} لأنه في قوم بأعيانهم بخلاف (المائدة) فإنه عام لقوله: {أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا} [المائدة: 17] ثم ردّ قولهم اللساني فقال: {بل كان الله بما تعملون خبيرًا} ثم ردّ اعتذراهم الواهي بقوله: {بل ظننتم} الآية. والبور جمع بائر أي هالك والباقي واضح إلى قوله: {رحيمًا} وفيه بيان كمال قدرته على تعذيب الكافرين مع أن مغفرته ذاتيه ورحمته سابقة.وقوله: {سيقول المخلفون} إنما لم يقل هنا لك لأن المخاطبين هم المؤمنون كلهم لا النبي وحده. وجمهور المفسرين على أن هؤلاء هم المخلفون المذكورون فيما تقدم.وقوله: {إلى مغانم} هي مغانم خيبر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد أهل الحديبية أن غنائم أهل خيبر لهم خصوصًا من غاب منهم زمن حضر بدل تعب السفر في العمرة التي صدّهم المشركون عنها. وزاد الزهري فقال: وإن حضرها من غيرهم من الناس. قالوا: ولم يغب منهم عنها أحد إلا جابر ابن عبد الله، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر. وكان انصراف النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم، ثم خرج إلى خيبر وخرج معه من شهد الحديبية ففتحها وغنم أموالًا كثيرة وجعلها لهم خاصة، وكان قبل ذلك وعد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه غنائم خيبر فسمع المنافقون ذلك فقالوا للمؤمنين {ذرونا نتبعكم} فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم لأن أمره أن لا يخرج إلى خيبر إلا أهل الحديبية وذلك قوله: {يريدون أن يبدّلوا كلام الله} فقال الله لنبيه {قل لنا تتبعونا} أي في خيبر. وقيل: عامّ في غزواته {كذلكم قال الله من قبل} أي قبل انصرافهم إلى المدينة {فسيقولون} ردًّا على النبي والمؤمنين إن الله لم يأمركم به {بل تحسدوننا} أن نشارككم في الغنيمة فرد الله عليهم ردّهم بقوله: {بل كانوا لا يفقهون إلا} فهمًا {قليلًا} وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين، أو هو فهمهم من قوله: {قل لن تتبعونا} مجرد النهي فحملوه على الحسد ولم يعلموا أن المراد هو أن هذا الاتباع لا يقع أصلًا لأن الصادق قد أخبر بنفيه. وذهب جماعة من المفسرين منهم الزجاج إلى أن كلام الله هاهنا هو قوله في سورة براءة {لن تخرجوا معي أبدًا} [الآية: 83] واعترض بأن هذا في قصة تبوك التي كانت بعد الحديبية بسنتين بإجماع من أهل المغازي. وأجاب بعضهم بأن هذ الآية أعني {سيقول المخلفون} نزلت في غزوة تبوك أيضًا. وعندي أن الاعتراض غير وارد ولا حاجة إلى الجواب المذكور.ثم إن الله سبحانه أخبر عن مخلفي الحديبية بأنهم سيدعون إلى قوم أولي قوة ونجدة في الحروب. وقيل: هم هوازن وغطفان. وقيل: هم الروم، غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك. والأكثرون على أن القوم أولي البأس الشديد هم بنو حنيفة قوم مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر الصدّيق لأنه تعالى قال: {تقاتلونهم أو يسلمون} ومشركو العرب والمرتدون هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس تقبل منهم الجزية. هذا عند أبي حنيفة، وأما الشافعي فعنده لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، والمجوس دون مشركي العجم والعرب.وقد يستدل بهذا على إمامة أبي بكر فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بعد وفاته ولا سيما فيمن يزعم أنه نزل فيهم {لن تخرجوا معي أبدًا} [التوبة: 83] اللهم إلا أن يقال: المراد لن تخرجوا معي ما دمتم على حالكم من مرض القلوب والاضطراب في الدين، أو أنهم لا يتبعون الرسول إلا متطوّعين لا نصيب لهم في المغنم قاله مجاهد. وقوله: {أو يسلمون} رفع على الاستئناف يعني أو هم يسلمون. ويجوز أن يراد إلى أن يسلموا، فحين حذف (أن) رفع الفعل. وقيل: الإسلام هاهنا الانقياد فيشمل إعطاء الجزية أيضًا. والأجر الحسن في الدنيا الغنيمة، وفي الآخرة الجنة. وقيل: الغنيمة فقط بناء على أن الآية في المنافقين، وعلى هذا لا يتم الاستدلال على إمامة الخلفاء. وقوله: {من قبل} أي في الحديبية. قال ابن عباس: إن أهل الزمانة قالوا: يا رسول الله كيف بنا؟ فأنزل الله تعالى: {ليس على الأعمى حرج} أي إثم في التخلف لأنه كالطائر الذي قص جناحه لا يمتنع على من قصده. وقدم الأعمى لأن عذره مستمر ولو حضر القتال، والأعرج قد يمكنه الركوب والرمي وغير ذلك. نعم يتعسر عليه الحرب ماشيًا وكذا جودة الكر والفر راكبًا. وقد يقاس الأقطع على الأعرج، ويمكن أن لا يكون الأقطع معذورًا لأنه نادر الوجود. والأعذار المانعة من الجهاد أكثر من هذا وقد ضبطها الفقهاء بأن المانع إما عجز حسي أو عجز حكمي. فمن الأول الصغر والجنون والأنوثة والمرض المانع من الركوب للقتال لا كالصداع ووجع السن، ومنه العرج البين وإن قدر على الركوب لأن الدابة قد تهلك. وعند أبي حنيفة لا أثر للعرج في رجل واحدة، ومنه فقد البصر ولا يلحق به العور والعشي، ومنه عدم وجدان السلاح وآلات القتال. ومن الثاني الرق والدين الحالّ بلا إذن رب الدين ومن أحد أبويه في الحياة ليس له الجهاد لا بإذنه إلا إذا كان كافرًا. والباقي واضح إلى قوله: {لقد رضى الله}. اهـ.
|